كيف أحمي أبنائي من السوشيال ميديا ورفاق السوء والجراثيم ومفّك البراغي

مشاركة المقال:

اخترت عنواناً أثار فضول كثيرين، فما الهدف من هذا العنوان وما علاقة التنشئة بمفك البراغي؟ ريمل يكون موضوع تنظيم تعرض أبنائنا للشاشات والمحتوى في وسائل التواصل الاجتماعي هو من أكبر التحديات التي تواجهنا كمربين في هذا العصر. لذلك وددت أن أتناوله من زاوية مختلفة قليلاً. فطولوا بالكم معي!

لنبدأ بمفك البراغي! هل المفك أداة جيدة أم سيئة؟ أعتقد أن الجميع سيوافقني أننا لا يمكن أن نطلق حكمًا بخصوص ذلك. قد توجد هذه الأداة مع إنسان متوازن وطبيعي ومتصالح مع ذاته وناضج وواع، وفي الوقت نفسه مبدع وفنان ولديه شغف بصناعة الأشياء ويستخدم المفك لصناعة تحفة فنية، أو يستخدمه بطريقة لها علاقة بالإبداع.

 ومن الممكن أن يكون هذا المفك في يد شخص مثلي، لا علاقة له بممارسة الحرف، ولا يعني له المفك أكثر من أداة موجودة في علبة الأدوات قد يستخدمه في ما ندر لتثبيت برغي مفكوك. 

وقد يوجد هذا المفك في يد شخص عصبي جداً في حالة مزاجية ونفسية سيئة للغاية، ويعيش لحظة غضب عارم، وأمامه شخص قد يستخدمه لإيذائه! 

 وقد يمتلك المفك طفل عمره ستة أشهر ليس لديه وعي ولا يدرك ماهية هذا المفك فيجرح نفسه أو يجرح الآخرين. نتفق إذًا على أن الأشياء سواء كانت مفك براغي أم منصات تواصل اجتماعي أم سيارة، لا تكون جيدة أو سيئة بحد ذاتها، بل ما يحدد ذلك هو طريقة استخدامها.

تكون الأشياء جيدة أو سيئة بحسب طريقة استعمال الأشخاص لها

لننتقل الآن لموضوع الجراثيم والنظافة، هل هناك مقياس عام يحدد ما إذا كان شخص ما نظيفاً أم لا؟ أعتقد أن أغلبكم يستطيع سرد قصص وأمثلة، لكنها تعبر عن أرائكم الشخصية. من الممكن أن نتكلم عن نقيضين هنا؛ القذارة الزائدة، أي شخص منزله قذر حتى أن هذه القذارة تصيبه بأمراض جلدية، وفي حالات متطرفة قد تؤدي إلى خطر على الصحة وتتدخل البلدية لتجبره على تنظيف المكان الذي يعيش فيه. من جهة أخرى، قد تتحول النظافة إلى وسواس أو هوس، فيصبح لدى الشخص هوس بالتنظيف والتعقيم حتى تتشقق يداه، وقد يمنعه ذلك من ممارسة حياته بصورة طبيعية، وتصبح حياته الاجتماعية محدودة بسبب هذه الفوبيا، وقد يكونون آباء وأمهات ويحرمون أطفالهم من اللعب بصورة طبيعية، لكن عدم تعرض الأطفال للجراثيم بصورة مقبولة يجعل مناعتهم ضعيفة عندما يكبرون.

ما بين النقيضين، هوس النظافة والقذارة المفرطة، هناك مساحة رمادية واسعة في المنتصف من الصعب أن نضع لها معايير محددة. قد تكون هناك معايير استرشادية مثل سؤال ماذا أفعل كي أكون في المنتصف؟ قد يعطي كل شخص رأيه بناء على تجربته الشخصية أو العرف في ثقافته، لكن من الصعب أن أحدد عدد غرامات الغبار التي يجب أن أزيلها كي يصبح بيتي نظيفًا أو عدد المرات التي يجب أن أنظف بها بيتي. تعتمد الإجابة على أشياء كثيرة جداً مثل موقع بيتي إذا كان مطلاً على شارع رئيس أو على أرض فضاء تثير الغبار بين وقت وآخر، ويعتمد على المناخ والفصول؛ فقد ننظف أكثر أو أقل تبعاً لهذه الأمور. من الممكن أن يكون لدى طفل أو شخص آخر في البيت حساسية أو ربو فأضطر للتنظيف أكثر من العادة. تعتمد هذه المنطقة الرمادية بصورة كبيرة على ثقافتنا وما نحتاجه على الصعيد الفردي أو الجماعي. هناك معايير استرشادية نعم، ولكنها تخضع برأيي بصورة كبيرة لأسلوب حياتي واحتياجاتي. 

هناك دائماً مساحات رمادية كبيرة بين الجيد والسيئ لكنها تخضع لظروفنا الشخصية 

لو طبقنا هذا الكلام على موضوع الشاشات والتطبيقات الجديدة، ونظرنا من خلال ما سبق ماذا سيحدث؟

أنا لا أستخف بالموضوع ولا أقلل من أهميته ولا أقصد أن تتعاملوا مع هذه الأشياء بلامبالاة. على العكس، أريدكم أن تتعاملوا مع مواضيع منصات التواصل الاجتماعي تحديداً بجدية، وهذه الجدية تفرض علينا فهم واستيعاب هذه المواضيع أولًا ثم التفكير واتخاذ القرار، وهذا مختلف جداً عن الهستيريا التي نتعامل معها الآن مع هذه المواضيع بشكل عام. ماهو شكل هذه الهستيريا الآن؟ هي أن أفتح الآن الإنستغرام أو الفيس بوك وأقرأ في العناوين الرئيسة: “لعبة جديدة تؤدي إلى انتحار الأطفال” ، ومن دون أن أقرأ بقية التفاصيل، أهرع إلى غرفة الأطفال وأهددهم أو أخيفهم وأنا غير مدركة لما أفعله تماماً. هذا التصرف نابع من الخوف، وهو ليس صحياً، لأننا إذا عدنا وقرأنا ما يرد أسفل العنوان في السطر الأول (الأشخاص الذين يصممون مثل هذه التطبيقات أو التحديات على السوشيال ميديا يستهدفون نوعيات معينة من المراهقين أو الأطفال)، لكن صنعة الإعلام تبرز العنوان بطريقة درامية لجذب القارئ إلى صفحة ما على الإنستغرام أو الفيس بوك أو الصحيفة. هذه هي طبيعة الإعلام وإذا كنت لا أدرك هذا الأمر فسوف أنجر وراء موجة الهستيريا.

لنعد إلى موضوع الاستهداف. عندما نصمم سياسات أو برامج اجتماعية في أي مجتمع كان، يكون لدينا دائماً شرائح نطلق عليها (الأكثر عرضة للضرر). هذه الشرائح بسبب ظروف معينة يكون لدى أفرادها قدرة أقل من باقي أفراد المجتمع على اتخاذ قرارات سليمة، ويكونون أكثر عرضة للاستغلال والفقر والعوز والحاجة. قد تتكون هذه الشرائح من أطفال فقدوا أهلهم أو بالغين يمرون بظروف مالية أو نفسية صعبة، أو كبار في السن ليس لديهم رعاية متوفرة. وحتى ضمن الفئات العادية – أعني الأطفال والمراهقين– هناك مجموعات أكثر عرضة للخطر وهي المستهدفة في هذه التحديات أو التطبيقات. يتصف هذا الشخص بما يلي: طفل أو مراهق في الأصل يعاني اكتئابًا أو قلقًا مرضيًا، وغالبًا هناك ضعف في التواصل في العلاقة الوالدية، أو عقبات في العلاقة مع أهله أو ظروف عائلية صعبة، أو حتى ظروف عادية لا تتوفر فيها الثقة والأمان والتواصل، أو ربما نقص في تقدير الذات أو تحديات معينة في المدرسة أدت إلى اكتئاب. عندما نقول إن الطفل أو المراهق لديه مشكلات أو تحديات أو صعوبات، ليس بالضرورة أن يكون الأهل مذنبين في ذلك، ولكن قد يكون الأهل غير قادرين على احتواء المشاكل أو المشاعر بصورة تجعلها تتراكم. وعمومًا لا يمتلك كثير منا الوعي بخصوص كيفية التواصل بصورة صحية فيما يتعلق بالمشاعر. لا يشكل وجود مراهق مكتئب في البيت وصمة عار أو إخفاقاً من جانب الأهل، دائماً هناك مجال للإصلاح، لكن ما أود أن أقوله هنا إن الطفل الذي لديه علاقة سوية بالأهل، الذي يمتلك شخصية قوية وثقة بذاته، لن يفتح السوشيال الميديا ويرى شخصاً يطلب منه أن بجرح يده بالموسى ويفعلها؛لأن لديه قدرة من نوع ما على اتخاذ القرار، ولديه هذا الخوف الذي يدفعه إلى التواصل مع والديه لأن قنوات الحوار مفتوحة.

 إذا كانت العلاقة لم تؤسس في الأشياء الصغيرة منذ عمر السنتين حين انكسرت لعبة الطفل الأولى وبكى بحرارة، إذا كان تواصلي معه بجمل مثل: “لا تبك، إنها مجرد لعبة، لا تبالغ” سأكون قد كسرت هذه الثقة بالفعل! وعندما يصل إلى عمر الرابعة عشرة ويشعر بالضيق لن أكون أنا وجهته للتعبير عن هذا الضيق. وبالطبع أنا لا أقصد حادثة واحدة في التربية لأننا جميعاً نمر بتقلبات صعبة، بل أعني أن تكون طبيعة علاقتي بهم مشوشة أو أن أكون غير قادرة على فهم مشاعرهم، عندها حين يكبرون لن يلجؤوا إلي عند وجود شيء مخيف أو مقلق.

إذا أخفنا الأطفال أو منعناهم أو عاقبناهم في ما يخص موضوع التحديات في تطبيقات الإنترنت، سنكون أشبه بمهووسي النظافة الذي تحدثنا عنهم في البداية، وسنؤثر سلبًا على مناعة أطفالنا. ولنكن صريحين تماماً، لن يقل تأثير السوشيال ميديا ودخولها إلى منازلنا مع مرور الزمن، بل سيزداد؛ وسيعيش أطفالنا في عالم هذا هو واقع الحال فيه ولا نملك أن نمنع هذه الأشياء من الوجود، ولكننا نستطيع أن نبني صلابتهم الداخلية ووعيهم وتقديرهم لذاتهم ونحرص على بناء علاقة واثقة وآمنة معهم، لكي نكون المرجع الأول لهم عند حدوث أشياء مريبة في حياتهم.

الأمر يشبه مفك البراغي، أنا أقدمه للطفل بجرعات تتناسب مع وعيه وإدراكه وأستخدم المعايير الإرشادية التي تتناسب مع طفلي وشخصيته واحتياجاته في المنطقة الرمادية.

 أنا أعمل هنا من خلال منظارين: تكون الأشياء جيدة بقدر ما نكون جيدين، كلما كنت واعيًا وواثقًا من نفسك ومبدعًا ستستخدم هذه التطبيقات بإبداع وتخدم الإنسانية وتحل مشاكل كثير من البشر، لكن عند فقدان الوعي والإدراك وتداعي البناء النفسي ستكسرك هذه الأشياء وتجرفك في موجة الهستيريا. 

ينطبق هذا الكلام على كل شيئ تقريبا. نحتاج للتدرب على السؤال والاستفهام بطريقة مختلفة. لا تأخذوا الأمور بوصفها مسلمات ولا تنجرفوا خلف العناوين الضخمة والضجة الإعلامية، انتبهوا أين تضعون أقدامكم، وخذوا قراراتكم بناء على دراسة ووعي وفهم.

إقرأ المزيد

مقالاتنا الأخرى

التربية من عدسة التنظيم الانفعالي

نتلقى كمربين وباستمرار الكثير من النصائح الموجهة لتغيير سلوك أطفالنا. وحتى المحتوى الموجه للمربين اليوم يقع مجمله في نطاق المدارس السلوكية التي تنشغل بتقديم حلول