كيف تساعدنا علوم الدماغ في رحلة الوالدية؟

مشاركة المقال:

تُعتبر السلوكيات غير المفهومة أو الصعبة من ضمن أكثر الأمور التي تشعِرنا بالإحباط في عملية التربية. فنحن كمربّين كثيراً ما نواجه من أطفالنا بعض السلوكيات مثل العناد، الإصرار غير المنطقي على أمور معينة، وجميع الانفعالات بشكل عام التي يمكن أن تبدأ بالزن وتنتهي بنوبات الغضب.

       لكن ما نحتاج لأن نعرفه عن كل هذه السلوكيات المزعجة لنا هي أنها بالضبط ما يحتاج أن يقوم به أطفالنا لكي ينموا بشكلٍ متزن، إنها الاشارات التي تتطلّب منا حلّها لمساعدتهم على مواجهة التوترات وهضمها والتعامل معها بشكلٍ صحي. إنّ فهم أساسيات نمو دماغ الطفل وإيجاد الأساسيات لدى المربي عن جذور هذه السلوكيات التي تبدو لنا غير منطقية أو مفهومة، يسهّل حياتنا بشكلٍ كبير ويساعدنا على دعم أطفالنا في اللحظات الصعبة.

الخطوة الأولى هي فهم مراحل النمو لدى أطفالنا

        إن اكتساب هذا الفهم سوف يجعلنا ننظر لأطفالنا بشكلٍ مختلفٍ تماماً، فيتوجّب علينا الاستيعاب أنهم بالنهاية كائنات ضعيفة ومعتمدة علينا في فهم انفعالاتها وتنظيمها بدلاً من إطلاق الأحكام عليهم أو وصفهم بأنهم مشاغبون أو عنيدون. وهذا يساعدنا أيضاً في أن نتخلّى تماماً عن الاعتقاد المؤذي بأنهم يتقصّدون إزعاجنا أو إغاظتنا، بل نتفهّم بأنهم عملياً يحاولون بأقصى ما يمكنهم من جهد للتصرُّف بأفضل طريقةٍ ممكنة.

       من هنا نرى بأنّ وجود الحد الأدنى من المعلومات والمعارف المتعلقة بالطريقة التي ينمو بها دماغ الإنسان ومراحل تطوّره تساعدنا كمربّين في الهدوء والتماسك أمام السلوكيات التي عادةً ما تفقدنا أعصابنا وتثير غضبنا، وتمنحنا من جهةٍ أخرى الوعي والمهارات المناسبة لمساعدة أطفالنا في مواجهة الإزعاجات والتوترات التي تواجههم، بشكلٍ يدعم نمو أدمغتهم باتزان.

 للسنوات الأولى في حياة الطفل أهمية قصوى في تطوّره 

        نولد كبشر بأدمغةٍ غير مكتملة، وهناك مناطق كثيرة من أدمغتنا تنمو وتتطور في السنوات الخمس الأولى من حياتنا، مع اعتبار أول 1000 يوم أهم وقت للنمو. تتطوّر أدمغتنا بدءاً من الأسفل صعوداً نحو الأعلى، أي من الجزء البدائي الغريزي الذي يقع في أسفل الجمجمة والتي تكمن مهمته الأولى في إبقائنا على قيد الحياة، إلى آخر جزء يتطور وهو الفص الجبهي وهو الجزء المنطقي من أدمغتنا.

        يستغرق هذا التطور سنوات طويلة حتى تنتهي هذه العملية في منتصف العشرينات تقريباً، وهكذا نرى كيف أنه لا نستطيع أن  نتوقع من الأطفال أن يتمكّنوا من التفكير بشكلٍ منطقي ذلك أن الجزء المسؤول عن المنطق مازال في قيد النمو والتطور،  تماماً مثلما لا نستطيع أن نتوقع من طفلٍ ما أن يتعلّم ركوب الدراجة قبل أن يتعلم المشي!

وظائف مناطق الدماغ التشريحية المختلفة في عملية النمو

      إنّ أول منطقة من مناطق الدماغ هي جذع الدماغ. هذه المنطقة هي المسؤولة عن القيادة بدءاً من الولادة وحتى عمر 6 أشهر تقريبًا. هذا الجزء من الدماغ هو الذي يتحكَّم في معدل ضربات القلب والتنفس والاستجابة للخطر والتي نسمّيها “الهجوم، الهرب والتجمُّد”. يتميّز هذا الجزء من الدماغ بأنه يقوم بوظيفته من دون تفكير حيث أنه عبارة عن استجابات غريزية مجردة.

     توضّح لنا هذه الحقيقة، كيف يمكن للرُّضع أن يتعرَّضوا للصدمات حتى في  الأعمار الصغيرة، ذلك أن حسَّ الخطر لديهم عالٍ جداً وغريزة الحماية عن طريق ردود الفعل الغريزية “التجمُّد، الهرب والقتال” هي الجزء الأكثر تطوراً في أدمغتهم.

     تتولّى المهمة بعد ذلك منطقة وسط الدماغ والتي تبدأ في النمو من عمر  6 أشهر وحتى عمر السنتين، والدماغ الأوسط هو المسؤول عن الحركة والتنسيق. وهذه هي المرحلة التي يتعلّم فيها الأطفال الحركات المختلفة مثل التدحرج والزحف والمشي، ويبدؤون باكتشاف أجسامهم وكل الأشياء المذهلة الي يمكنهم فعلها.

     بين عمر السنتين والسبع سنوات تبدأ تظهر في القيادة، المنطقة المظلومة وغير المفهومة والتي يتسبّب الجهل بها وبوظائفها بالكثير من الإشكالات، وهي منطقة الجهاز الحوفي أو الليمبي  Limbic System، وهذا ما يجعل الأحكام تظهر على الأطفال في سن السنتين، فنقوم باتهامهم بالعناد أو المشاغبة. إنّ هذه المنطقة هي المسؤولة عن المشاعر.  في هذه الفترة بين عمر السنتين والسبعة يبدأ الأطفال باختبار مشاعر كبيرة ومحيرة ولكن لا تكون لديهم اللغة ولا المنطق للتعبير عنها أو محاولة فهمها. وحتى عندما تصبح لديهم المفردات فإنه من الطبيعي أن يواجهوا صعوبات في التعبير والفهم، وسوف يتعاملون مع هذه المشاعر القوية بشكلٍ انفعالي للغاية.

       أما آخر منطقة سنتحدّث عنها في هذا المقال هي الفص الجبهي، وهو الجزء المسؤول عن المنطق في الدماغ، هذا الجزء تبدأ بعض ملامحه بالظهور في سن السبع سنوات. وأودُّ منكم الآن أن تتوقفوا قليلاً لتتأمّلوا وتستوعبوا هذه المعلومة بشكل جيد، وكيف أن توقُّعاتنا من الأطفال في عمر 5 أو 6 أو 7 سنوات هي توقعات لا تكون في الغالب منطقية أو عادلة.

     يتولّى هذا الجزء من دماغنا مسؤولية تنظيم انفعالاتنا والتحكّم في السلوك الاجتماعي وحلّ المشكلات والمنطق. ومن المهم أن نعود لنذكر أن عملية تطوُّر هذا الجزء هي عملية بطيئة وتستمر لسنوات عديدة تمتدُّ حتى منتصف العشرينات من العمر، لذلك لا يمكننا أن نتوقّع من الأطفال ولا حتى اليافعين، أن يتمكّنوا من التفكير والتصرُّف كبالغين أبداً.

     هذه كانت فقط لمحةً من المعلومات التي لا يتم الإضاءة عليها كثيراً بالعادة، والتي إن اكتسبناها فسنستطيع تفسير كثيرٍ من الأمور التي نعاني منها في التعامل مع أطفالنا كمربّين، ويساعدنا أن نفهم مراحل تطوّر أطفالنا ونرى كذلك الأمور من منظورهم الخاص، ونتحلى بالحكمة والصبر في التعامل معهم.

    سأعطي مثالاً على مدى قدرة الأطفال على الفهم والتفاعل مع أوامرنا، فمثلاً عند طفل عمره ثلاث سنوات لن يهتمّ كثيراً عندما أحاول أن أكلّمه بعقلانية وأقنعه أن الكوب الأخضر هو نفسه الكوب الأزرق الذي يطلبه، فهو ليس بقادرٍ على استيعاب حقيقة كون الكوبين يؤدون له نفس الوظيفة التي هي الشرب، لكن ما يعرفه فقط هو أنه يريد الكوب الأزرق وانهار وأصيب بالإحباط عندما أعطيناه الكوب الأخضر.

حاجة الأطفال للمربّين مهمة في إدارة مشاعرهم وانفعالاتهم

     إنّ وجود الأطفال في مرحلة العقل العاطفي يجعل حساسيتهم للتغيير أعلى، وبالتالي هم يشعرون بالراحة من خلال المألوف، فالتغيّر من الممكن أن يشعِرهم بالخطر خاصةً عندما يحدث بشكلٍ فجائي أو عندما يكونون غير قادرين على التنبؤ بهذا التغيير. تستمر هذه المرحلة إلى أن يبدأ الفص الجبهي المسؤول عن المنطق في الدماغ بالتطور، فبدون الوصول لهذه المرحلة لن نستطيع أن نتوقع من الأطفال أن يفسّروا لنا أحاسيسهم، فهم لن يتمكّنوا من أن يقولوا لنا مثلاً: “أنا قلقلة من كذا.. ” أو ” محبط من كذا” . ففي هذه المرحلة السلوكيات هي دليلنا على أي توتر أو اختلال في عالمهم الداخلي.

     وفي هذه المرحلة تنبع أهمية المهمة الملقاة على عاتقنا كمربّين وهي مساعدتهم على التحلّي بالهدوء وحتى نستطيع أن نكون نحن العقول التي تفكر بدلاً منهم ونبدأ نطور عندهم من خلال النمذجة لغة المشاعر، فهم لن يستطيعوا فعل ذلك بروحهم، وسيكونون في أمسِّ الحاجة لهدوئنا وحكمتنا في توجيههم.

     فالطفل المتوتر مثلاً سوف يحتاج أن يشعر بوجودنا وتواصلنا معه لكي يطمئن جهازه العصبي ويخرج من حالة التحفّز، فهو بحاجة ماسة ليشعر بأننا نفهمه وأننا غير مستنكرين لغضبه. وهنا تلعب عملية الشرح والتطمين دوراً جوهرياً فأحياناً مجرد شرحٍ بسيط وهادئ للسبب الذي جعلني أعطيه الكوب الأخضر بدل الأزرق، كفيلٌ بأن يساعده على الاطمئنان وأحياناً لا. إنني لا أفضِّل أن أعطي انطباعاً أنه هناك جملة سحرية أو فعل سحري سينفع مع كل الأطفال في كل الأوقات، فهم سيحتاجون أن يجرِّبوا ويختبروا لكن الأساس دائماً يجب أن يكون في محاولة أن أوصل لهم رسائل تفهُّم وتطمين بأني سأعطيه الذي يطلبه لو كان متاحاً وغير خطير، ولكن فهمي ودعمي له في هذا الموقف مهم حتى أساعده لينمِّي قدرات دماغه.

عملية التفهُّم هي عملية تدريجية وبحاجة للكثير من الصبر والهدوء

من المحتمل جداً أن يبدو هذا الكلام غير واقعي ومثالي جداً للكثير من المربّين، فنحن كلُّنا مشغولون ولا نملك الوقت الكافي ونرغب بأن تنتهي الأمور بأسرع وأسهل طريقة. لكن الحقيقة هي أننا عندما ندخل في صراعات مع أطفالنا ومواجهات مع أدمغتهم الانفعالية وغير الناضجة، نحن نستهلك وقت وطاقة أكثر بكثير من حالتنا ونحن نحاول أن نتفهّم الموقف ونتمالك أعصابنا. وغالباً أيضاً فإنّ هذه الصراعات لن تنجح في حل أي مشكلة ولا في إكسابهم أية قدرات أو مهارات للتعامل مع الضغوط على المدى الطويل، فالسلوكيات الصعبة ستتكرر بأشكال مختلفة ومستمرة وحتى أنها ستتفاقم أكثر.

       نستنتج من كل ذلك أنّ قدرتنا على البقاء متماسكين وهادئين كمربين ضرورية لأبعد حدّ، فمن المهم جداً ألا ندخل نحن أيضاً في فوضى مشاعرنا مع أن هذا أمرٌ طبيعي ويحصل لنا كلنا لكن نحتاج لأن نتدرَّب على بناء هذه القدرات بشكلٍ تدريجي.

       من الطبيعي أن ننفعل ونتوتر ونتعب ونفقد السيطرة على أعصابنا، فمن المؤكد أننا جميعاً مررنا بلحظات من هذا النوع. فكروا قليلاً كيف سيكون إحساسكم في لحظاتٍ مثل هذه لو جاء لكم شخص وقال: ” ما تفعلونه غير منطقي ويجب عليكم أن تتوقفوا فوراً”، هل سيساعدكم هذا الأمر أم أنه سيدفعكم للمزيد من التوتر والعصبية والغضب؟! الأمر نفسه ينطبق على أطفالنا مع فارق أن قدرتهم على تحمُّل التوتر والقلق والتعب أقل بكثير من قدرتنا.

كيف نتفهّم سلوكيات أطفالنا ونتواصل بشكلٍ أفضل معهم؟

      يجب علينا أن نعلم أن محاولاتنا لمقابلة الانفعالات وتهدئتها بالمنطق هي محاولات فاشلة، ولن تنجح أبداً إلا في زيادة الطين بلة. نحن محتاجون لأن نتعلّم كيف نتكلّم لغة المشاعر وكيف نقابل المشاعر بالمشاعر. كيف نفهم وكيف نساعد أطفالنا المنفعلين على المرور خلال فوضى المشاعر والخروج منها لمنطقة الهدوء.

       إن هذا الأمر لن يحدث إلا إذا تعلمناه نحن كمربين أولاً، عندما نكون هادئين ونبدو أننا متفهّمين لهم، فهذه هي الطريقة الوحيدة لبناء أدمغتهم وأجهزتهم العصبية بشكلٍ متزن وإيجابي.

       ولكننا بالطبع لا نحتاج كمربين أن نكون علماء نفس أو علماء أعصاب، ولكن عندما تكون عندنا معرفة بسيطة وعامة بأساسيات نمو الدماغ سوف نرى أنفسنا أكثر ثقة في رحلة الوالدية، وسوف تحرِّرنا هذه المعرفة من التوقُّعات غير المنطقية التي نحملها، وتجعلنا نرى السلوكيات التي عادةً ما تزعجنا على أنها أمرٌ طبيعي بل ضروري لنمو أطفالنا، وتعطينا المهارات التي تساعدهم بدل أن نقوم بمعاقبتهم على أمورٍ تطورية طبيعية.

      علينا ألا نتوقّع من أطفالنا أنهم قادرون على التفكير كبالغين؛ لأنهم لا يملكون المهارات ولا القدرة على ذلك. فمشاعرهم وانفعالاتهم في مرحلة الطفولة كبيرة وغامرة لدرجةٍ تمنعهم عن القدرة على إدارتها وتنظيمها بمفردهم وسوف يكونون دوماً بحاجة لأن يعتمدوا علينا حتى نساعدهم فيها بهدوء وحكمة وصبر، حتى يأتي الوقت الذي يكونون فيه قادرين على القيام بهذه العملية بمفردهم بشكلٍ فعَّال وبالتدريج.

إقرأ المزيد

مقالاتنا الأخرى

التربية من عدسة التنظيم الانفعالي

نتلقى كمربين وباستمرار الكثير من النصائح الموجهة لتغيير سلوك أطفالنا. وحتى المحتوى الموجه للمربين اليوم يقع مجمله في نطاق المدارس السلوكية التي تنشغل بتقديم حلول