التربية من عدسة التنظيم الانفعالي

مشاركة المقال:

نتلقى كمربين وباستمرار الكثير من النصائح الموجهة لتغيير سلوك أطفالنا. وحتى المحتوى الموجه للمربين اليوم يقع مجمله في نطاق المدارس السلوكية التي تنشغل بتقديم حلول من قبيل المكافآت وأساليب تعزيز السلوك الايجابي، والوقت المستقطع. وبالرغم من أن هذه النصائح تعتبر نقلة نوعية من أساليب العقاب التي تربى أغلبنا عليها إلا أنها ماتزال غير مجدية. فكلنا كمربين قد جربناها بشكل أو بآخر لنكتشف أنها قاصرة وغالباً ما تجعلنا نشعر بالإحباط والهزيمة. ما الحل إذا؟
الجواب يكمن في مصطلح التنظيم الانفعالي. فالأمر لا يتعلق بتصحيح السلوك؛ بل بفهم ومعالجة المشاعر الكامنة التي تقوده ومعالجة الاحتياجات التي تقبع خلف ما يظهره السلوك بحد ذاته.

دعونا نعترف أننا كبالغين، غالبًا ما نكافح من أجل تنظيم انفعالاتنا ومشاعرنا، لإننا لم نتعلم هذه المهارات أو نكتسبها في صغرنا، وبذلك طورنا طرقاً غير صحية للتعاطي معها، كالتجاوز والتجاهل والكبت، وغني عن الذكر أن كل هذه الطرق تجرنا إلى سلوكيات وأنماط استجابات غير صحية نعاني منها اليوم في حياتنا، بل قد تجلب علينا الأمراض والأوبئة. ويتكشف مدى ضعفنا في تنظيم انفعالاتنا بشكل واضح وجلي متى ما أصبحنا مربين فنعاني من تنظيم انفعالاتنا مع أطفالنا ونجتهد بأقصى طاقتنا لتغيير استجاباتنا الموروثة. لذا فليس من المستغرب أن يواجه الأطفال صعوبة في ذلك أيضًا.

من المهم أن نتذكر أن الأطفال ما زالوا قيد التعلم، وأن قدراتهم على التنظيم الانفعالي محدودة جداً وسيكونون بحاجة لمساعدتنا أغلب الوقت في تنظيمها حتى يتمكنوا من اكتساب هذه المهارات لاحقاً ومع الوقت والنمذجة الحكيمة منا كمربين ومقدمي رعاية. لا يمتلك الأطفال نفس القدرات المعرفية مثل البالغين، فالأجزاء الخاصة بالمنطق والتحكم بالنفس لن تكون مكتملة النمو في أدمغتهم قبل منتصف العشرينات من أعمارهم، وهم غالباً ما يفتقدون إلى المفردات والإدراك الذي يمكنهم من فهم مشاعرهم والتعبير عنها بفعالية. وهنا يأتي دورنا كمربين في مساعدتهم على مواجهة هذه المشاعر واكتساب طرق صحية للتعبير عنها والمرور عبرها وهضمها بشكل يكسبهم المرونة النفسية التي يمكن أن نعتبرها من أهم السمات الشخصية التي يمكن أن نمررها لأبنائنا.

إن التركيز على التعديل السلوكي هو توجه أقل ما يقال عنه هو أنه قاصر، ذلك أنه يركز فقط على ظاهر المشكلة (السلوك) من دون معالجة الاحتياجات العاطفية الأساسية. فالطفل الذي يتصرف بطرقة عدوانية مثلاً، قد يفعل ذلك لأنه يشعر بالخوف والقلق، وقد تؤدي الإستراتيجيات السلوكية إلى إيقاف المشكلة المباشرة ، لكنها لا تفعل شيئًا لمعالجة السبب الجذري لمشاعره فنحن بذلك لا نكون قد اكسبنا الطفل المهارات التي يحتاج إليها في حياته للتعامل مع المشاهر الصعبة وبالتالي فهو قد يطور استجابات غير صحية تجاه مشاعر القلق والتوتر التي يمر بها، كما أنه سيطور نظرة قاصرة عن ذاته بصفته شخصا عدوانيا أو عصبيا أو غيرها من الأحكام التي نطلقها على الصغار، وسيحمل هذه النظرة عن ذاته طوال عمره ويتماهى معها. الأمر الذي قد ينتج أنماطاً سلوكية أخرى مؤذية.

أما لو فكرنا واستجبنا لهذا الطفل من منظور التنظيم الانفعالي وباستخدام المهارات التي تقوم ببنائه، فإننا سنحتاج للنظر إلى هذا الطفل من دون أحكام وعلى أنه يقوم بأفضل ما لديه في مواجهة مشاعر صعبة لا يمتلك الفهم أو الأدوات المناسبة للتعامل معها، وهكذا نتمسك بالخير الذي بداخله ونتخلص من الأحكام المجحفة في حقه.
إن العمل بهذه الطريقة يتطلب من المربي نفسه أن يتمتع بمهارات التنظيم الانفعالي فلا يثور أو يغضب أو يخاف أو يقلق في مواجهة التحديات السلوكية التي يواجهها من أبنائه، فالأطفال لا يمكنهم تنظيم انفعالاتهم بشكل ذاتي بعد وهم بحاجة للاعتماد علينا كبالغين هادئين يمكننا دعمهم في هذه اللحظات، فمن خلال هدوئنا يمكننا أن نشعر أجهزتهم العصبية بالأمان وهذه أول خطوة لإعادة تهدئة أجهزتهم العصبية ونقلها من مكان هجوم وتحفز إلى مكان هادئ.
تحدث هذه العملية بشكل تلقائي من خلال آلية تعرف بعدوى المشاعر أو Emotional Contagion وهو الميل الغريزي الذي نتمتع به كبشر لمحاكاة مشاعر الآخرين حولنا، فنحن كبشر كائنات اجتماعية نتصل مشاعريا وانفعاليا على مستويات عديدة وعميقة، وأجهزتنا العصبية تلتقط وتحلل الإشارات التي نتلقاها من محيطنا طوال الوقت فتشير لأدمغتنا بأن هذه البيئة آمنه أو غير آمنه.
يتمتع الأطفال بحساسية أعلى من البالغين بمراحل في التقاط هذه الإشارات غير اللفظية من محيطهم، فهي آلية حماية للكائنات الصغيرة الضعيفة التي دائما ما تكون بحاجة لحماية الكبار حولها. لذلك تصبح قدرتنا كمربين على تنظيم انفعالاتنا جوهرية عندما يمر أطفالنا بمواقف صعبة ويعبرون عنها بسلوكيات عدائية أو مؤذية ذلك أن إحساسنا بالهدوء يمكن أن ينتقل إليهم مثلما ينتقل إليهم إحساسنا بالخوف أو القلق أو التحفز فيزيد انفعلاهم أو يهدأ. إنه ليس حلاً سريع، لكنه حل دائم.

التنظيم الانفعالي مهارة لم يكتسبها أغلبنا في طفولتنا، لكن الخبر السار هو أنها مهارة يمكن تعلمها واكتسابها بالممارسة ومع الوقت. وكلما بدأنا أبكر كمربين، كان من الأسهل على أطفالنا تطوير هذه المهارات.

ولكن من أين نبدأ؟ وهنا يأتي دور منهجية التنشئة عبر التواصل، وهي منهجية مسندة علمياً ومتوافقة مع نظرية الارتباط وعلوم الصدمات. وتنطلق من مبدأ أساس هو أن الاحساس بالأمان هو القاعدة التي يحتاجها دماغ الطفل وجهازه العصبي للنمو بشكل متزن وصحي. اتخذ املهدي بعين الاعتبار حاجات المربي ومهاراته الانفعالية وظروف نشأته بعين الاعتبار وقد تكون المنهجية الوحيدة المتاحة حالياً التي تفرد للمربين أداة خاصة تدربهم عليها للتعامل مع محفزاتهم وبناء مجتمع آمن. تدرس المنهجية من خلال ورشة العمل “مدخل لمنهجية التنشئة عبر التواصل” وهي الخطوة الأولى للمربين الراغبين باكتساب هذه الأدوات، وتمتد الورشة على مدار ست أسابيع وضمن مجموعة صغيرة وهي مصممة لرفع قدرة المربين على الاستجابة لكافة التحديات التربوية التي تواجههم بشكل يعزز من إحساس أطفالهم بالأمان ويساهم في بناء مرونتهم النفسية. يمكنكم الاطلاع على تفاصيل الورشة بما في ذلك شهادات المشاركين السابقين من هنا.

إقرأ المزيد

مقالاتنا الأخرى