ماهي الوالدية الواعية؟

مشاركة المقال:

من أين أتت، وكيف تطورت، وما الفرق بينها وبين المفاهيم المتعارف عليها (الثواب والعقاب، كرسي العقاب، الملصقات)، وغيرها.

بدأت القصة قبل أكثر من مائة عام مع العالم الروسي بافلوف الذي اشتهر بتجاربه على الكلاب. كانت تجربته قائمة على إدخال الطعام مع صوت رنين الجرس، وقياس كمية اللعاب التي يفرزها الكلب في هذه المرحلة.

في أحد الأيام رن أحد الحراس الجرس عن طريق الخطأً من دون إدخال الطعام، لكن المفاجأة كانت أن الكلاب أفرزت الكمية نفسها من اللعاب، الأمر الذي أدهش العالم وقاده إلى طرح تفسيره الذي يدل على وجود ارتباط شرطي بين الجرس والأكل، فسماع صوت الجرس جعل الكلاب تعتقد أن الأكل قادم، وهذا ما قاد أجسامها إلى إفراز اللعاب!

أبحاث بافلوف جعلته الأب المؤسس للمدرسة السلوكية في علم النفس، إذ أن جميع نظريات التربية والتعليم في المائة عام الأخيرة بنيت تحديداً على نظرية الارتباط الشرطي، وبإسقاطها على التربية، تمحورت التربية حول تحفيز سلوك معين لدى الطفل بالمكافأة أو إيقاف سلوك معين بالعقاب.

كان اكتشاف بافلوف تنويرياً ومهماً في ذلك الوقت، لكنه لم يزح الستار عن الحقيقة الكاملة. لقد تطورت البشرية كثيرًا منذ ذلك الزمن، كما تطورت الأبحاث المهتمة بالدماغ والسلوك؛ أي الأبحاث المتعلقة بعمل الدماغ وكيفية التعلم وتأثير مشاعرنا على قراراتنا الشخصية، وكيف تشكل تجاربنا في الطفولة المبكرة نظرتنا إلى العالم في ما بعد.

كانت هذه الأبحاث الجديدة تقيس عمل الدماغ بأجهزة متطورة لم تكن موجودة في زمن بافلوف، الأمر الذي أتاح لنا كثيرًا من المعلومات الجديدة في هذا العصر، معلومات أخبرتنا أن الإنسان لا يتخذ قراراته عن طريق العقاب والمكافأة فحسب، إذ أن هناك أشياء كثيرة أخرى تتدخل في ذلك.

أثرت نتائج هذه الأبحاث على نظريات التربية والتعليم الحالية، وصار الحديث عن تعديل السلوكات جزءًا من الهدف، فأصبح لدينا نظريات أعمق وفلسفة قائمة على التواصل والعلاقات.

وهذا ما يميز منهج الوالدية الواعية التي تركز على العلاقة بوصفها حاجة أساسًا ومتطلبًا حيويًا للأطفال وحتى الكبار. من المهم لنا بصفتنا بشرًا وكائنات اجتماعية بالفطرة أن نشعر بالأمان مع الأشخاص من حولنا، وأن نشعر بالطمأنينة مع شخص مقرب، إذ أن وجودنا في بيئة غير مريحة يعوق اتخاذنا قرارات سليمة ويؤثر على نفسيتنا وصحتنا بوصفنا بالغين.

تتضاعف الحاجة إلى وجود شخص آمن ومريح لدى الأطفال، يخرج هذا الطفل إلى العالم ليعتمد على شخص بالغ في تلبية احتياجاته الكاملة؛ فالطفل لا يستطيع الأكل، ولا يستطيع تنظيف نفسه، ولا يستطيع التواصل بوضوح مع من حوله، وهو يدرك غريزيًا أن بقاءه على قيد الحياة مرتبط بوجود شخص بالغ يحبه ويهتم به. يعاني الطفل لدى حرمانه من علاقة آمنة بقدر معاناته عندما يشعر بالصدمة إذا كتمت أنفاسه ومنع من الحصول على الأكسجين؛ بخاصة علاقته مع الأم إذ كانا جسداً واحداً في الأصل. فالحاجة إلى وجود شخص بالغ محب ومهتم هي حاجة أساس، وليست ترفاً بالنسبة إلى الطفل.

يأتي اسم (الوالدية الواعية) من أن ممارستها تستدعي أن نكون على قدر من الوعي بالحاجات النفسية والعاطفية للطفل، المثبتة بالأبحاث الحديثة. فنحن هنا لا نركز على المهارات الحسية أو العقلية للطفل، بل على مفهوم أشمل. يعد تعلم الحروف والألوان والأرقام في سن مبكرة مهارة جيدة ومدعاة لفخر المربين، لكن هناك مهارات أساسًا لها الأولوية؛ مهارات مثل تعلمه مفردات تساعده في التعبير عن نفسه وعن مشاعره واحتياجاته.

ما نملكه من معرفة الآن يرينا أن هناك احتياجات أكبر تتعلق بتطور الأطفال الحسي النفسي، مثل تقدير الذات.

يختلف التعامل مع السلوكات في فلسفة الوالدية الواعية تماماً عن ما كنا نفعله في الأجيال السابقة. كان يجري التركيز قديماً على السلوك العدواني أو الانطوائي أو أي سلوك غير محبذ، وعلى كيفية تحييده أو معالجته؛ بينما نعرف الآن أن هذه السلوكات ما هي إلا إشارات، ووظيفتنا هي محاولة فهم الأسباب وراء هذه السلوكات، فقد يكون الطفل جائعاً، أو بحاجة إلى النوم، أو يرغب في مزيد من الاهتمام. ومع الملاحظة والممارسة يصبح المربي أكثر دراية بشخصية الطفل وقادرًا على معرفة أسباب هذه السلوكات.

لا تقتصر رحلة الوالدية على فهم مشاعر الطفل وعالمه الداخلي، ولكن من المهم أيضًا أن نكون نحن المربين على قدر من الوعي بمشاعرنا الخاصة؛ أي لماذا نتصرف بهذه الطريقة، لماذا تستفزنا بعض الأمور، كيف تؤثر انفعالاتنا وقراراتنا على تصرفات أطفالنا والقيم التي تنغرس فيهم، والعكس صحيح! يعني ذلك أن سلوكات أطفالنا قد تؤثر على انفعالاتنا. نعم نحن بالغون وأدمغتنا مكتملة النمو، لكننا كائنات عاطفية في الوقت نفسه، وما زالت تجاربنا السابقة والمشاعر التي تولدت عنها تؤثر في قراراتنا وردات أفعالنا أمام أطفالنا. من المهم أن نعرف أن الوالدية لا ترتكز على التربية بوصفها ردة فعل! هل أنا غاضب؟ هل أرى الأبعاد الحقيقة للحدث؟ أم أنني أتخذ قراراً انفعالياً؟

يذكر دانييل سيغل في كتابه (No Drama Discipline) مثالًا جميلًا عن الكيفية التي يؤثر من خلالها صوتنا الداخلي ووضعنا وأفكارنا على الطريقة التي نتعاطى بها مع أطفالنا. يذكر الكاتب قصة أم وابنتها التي لم تكن تواجه أي مشاكل في المدرسة، درجاتها ممتازة وأداؤها حسن، لكن صدف أنها مرضت في أحد الأسابيع وتغيبت عن بعض الحصص، وفي إثر ذلك حصلت الطفلة في اختباري مادة الرياضيات اللاحق على درجة متدنية مقارنة بدرجاتها السابقة.

في هذه القصة تدرك الأم مسبقاً أن مرض ابنتها كان السبب، ولذلك لا تعطي الموضوع أكبر من حجمه، فتعرض على ابنتها المساعدة وتناقشها في كيفية تجاوز المشكلة في حوار صحي وبناء وإيجابي.

والآن لنناقش المسألة مفترضين أن هذه الأم نفسها مرت ابنتها في الظروف نفسها، لكن كان لديها ابن أكبر يعاني مشاكل دائمة في مادة الرياضيات. بما أن الأم في الحقيقة تشعر بالضيق من هذا الموضوع وتبذل جهدًا لتتداركه، لن تفكر في الظروف المحيطة التي أدت إلى تدني درجة ابنتها في الامتحان، بل إن أول ما سيتبادر إلى ذهنها هو أن ابنتها بدأت تعاني المشكلة ذاتها التي يعانيها ابنها الأكبر، وسوف تبدأ بالشعور بالخوف والقلق، الأمر الذي سيؤثر في سلوكها الحالي مع ابنتها. قد تصرخ في وجهها وقد تتهمها بالفشل وتحكم عليها، وربما تلجأ إلى وسائل عقاب غير منطقية بسبب هاجسها الداخلي الذي دفعها إلى هذه الحافة، في حين كان من الممكن جداً أن تتعامل مع المشكلة بصورة أفضل.

قد لا تكون الصعوبات التي يواجهها الابن في الرياضيات مصدر هذا القلق أو الصوت الداخلي المزعج أو المخاوف، ربما كانت الأم نفسها تعاني صعوبات في الرياضيات، وربما تشعر بالإجهاد بسبب عدم نمكنها من النوم ليلاً لوجود طفل رضيع، وهي عاجزة عن تقيم الأحداث منطقيًا، ربما لديها مشاكل خاصة مع أحد أفراد العائلة أو الأقارب أو مديرها المباشر في العمل. هناك عوامل عدة قد تكون سبباً في ما حدث، لذلك تهتم مدرسة الوالدية الواعية بصوتك الداخلي ووضعك النفسي ومشاعرك تجاه مواقفك ومخاوفك المترتبة على آثارها.

أحيانًا لا نستطيع أن نميز بوعي الأسباب الكامنة وراء غضبنا في بعض المواقف، أو لماذا تحفز بعض التصرفات لدينا ردات فعل معينة. هذه الأمور لا تكون حاضرة في الذاكرة الواعية، بل مخزنة في الجهاز العصبي واللاوعي. لكن مع الانتباه أكثر إلى أصواتنا الداخلية نستطيع ربط الأمور بطريقة أفضل، ونتمكن من فهم أنفسنا وتحسين ردات أفعالنا في علاقاتنا مع أطفالنا.

ترتكز الوالدية الواعية باختصار على أربعة مفاهيم:

  1. العلاقة حاجة أساسية ومتطلب حيوي، ووجود شخص آمن ومحب في حياة الطفل أمر ضروري.
  2. الوعي بالاحتياجات النفسية والعاطفية للطفل بحسب آخر الأبحاث.
  3. إن السلوكات إشارات يرسلها لنا أطفالنا ليخبروننا بوجود شيء مرتبك في عالمهم الداخلي.
  4. لا بد من التوازن في العلاقة وفهم المربي لمشاعره الخاصة حتى لا تكون التربية مجرد ردات أفعال .

والآن لنتحدث عن منهج التنشئة عبر التواصل وعلاقته بالوالدية الواعية:

 التنشئة عبر التواصل منهج أسست له (باتي ويبفلر) في أثناء بحثها عن طريقة للتعامل مع ضغوطات التربية والتواصل مع أبنائها. عملت باتي في مرحلة ما مديرة لإحدى الحضانات وبدأت بتطبيق هذا المنهج بناء على دراساتها والأبحاث التي أجرتها وفهمها للنفس الإنسانية، وراقبت آثاره. وبعد سنوات عدة، أنشأت مؤسسة غير ربحية في الولايات المتحدة أسمتها (هاند إن هاند). وأنا شخصًا تعرفت إلى منهج التنشئة عبر التواصل في أثناء بحثي عن ما من شأنه أن يساعدني في علاقتي مع ابنتي. كنت أود أن أكون أماً أفضل، وأبحث عن منهج مقنع لعقلي وقلبي لا يدخلني في دوامة الإحساس بالذنب.

في هذه الرحلة تدربت في كثير من المؤسسات واطلعت على مناهج عدة، لكني شعرت بالفرق في العلاقة مع طفلتي من خلال تطبيقي منهج التنشئة عبر التواصل، وأدركت أن هذا المنهج لا ينبغي أن يكون حكراً على أحد، بل لا بد أن يطلع عليه مزيد من المربين. لذلك قررت أن أتدرب مع مؤسسة (هاند إن هاند) لتدريب المربين على هذا المنهج، والآن أنا أعطي المحاضرات والحلقات الدراسية للمربين.

يسأل كثير من المربين بخصوص ما إذا كانت هذه المناهج والنظريات ملائمة لهم، وهذا سؤال مشروع وجيد، وللمساعدة في الإجابة عن هذا السؤال لا بد أولاً من الإجابة عن الأسئلة الأربعة الآتية:

  1. هل تبحثون عن علاقة دافئة ومحبة وتودون التخلص من الصراعات والحروب المستمرة بينكم وبين أطفالكم؟
  2. هل تبحثون عن المتعة في رحلتكم مع تنشئة أطفالكم؟
  3. هل تريدون تربية أطفال سعداء قادرين على مراعاة مشاعر الآخرين واحتياجاتهم؟
  4. هل تطمحون إلى تربية أشخاص متزنين نفسياً ويتمتعون بصلابة داخلية وانضباط ذاتي وحس عال بالمسؤولية؟

إذا كانت إجابتكم نعم على أي من هذه الأسئلة فهذا المنهج يلائمكم تماماً!

السؤال الأهم الذي يجب أن يسأله المربي هو: هل من السهل تعلم المنهج؟

الإجابة نعم و لا!

نعم لأن الأفكار المطروحة سهلة وغير معقدة ومتوافقة تماماً مع الفطرة الإنسانية، لكن صعوبة تطبيقها تشبه صعوبة تعلم لغة جديدة، مثل تعلم عزف مقطوعات قصيرة مدة من الوقت، ومع الممارسة والتدريب ستتمكن من عزف مقطوعات أصعب وأكثر تعقيدًا، وربما تؤلف مقطوعاتك الخاصة!

ينطبق الشيء ذاته على التحول إلى مناهج التربية الواعية، إذ أن أغلبنا لم ير تطبيقها واقعياً خلال نشأته. عندما أكون في وعيي على سبيل المثال أتقن التصرف في ما يحدث من مواقف، لكن طالما أن هذه الأفكار لم تدخل في اللاوعي، ستتشكل ردة فعلي بناء على المواقف التي تعرضت لها والطريقة التي نشأت من خلالها.

المنهج سهل إذاً، لكنه يحتاج إلى صبر وممارسة وتدريب، ومع الوقت سأكون قادرة على فهم نفسي وفهم طفلي وبناء علاقة قوية ومتينة معه.

سأبدأ ببطء وأتدرب على جزئيات صغيرة، لن أحل مشكلات كبيرة جداً من البداية، لن يكون حضور محاضرة من خمس ساعات متواصلة هو الحل الجذري الذي يغير طريقتي في التربية، لذلك نحن نحتاج إلى الصبر والوعي في هذه الرحلة.

إقرأ المزيد

مقالاتنا الأخرى

التربية من عدسة التنظيم الانفعالي

نتلقى كمربين وباستمرار الكثير من النصائح الموجهة لتغيير سلوك أطفالنا. وحتى المحتوى الموجه للمربين اليوم يقع مجمله في نطاق المدارس السلوكية التي تنشغل بتقديم حلول