“رتب غرفتك” “وضبي سريرك” “انهوا وظائفكم المدرسية” هل تجدون أنفسكم تعيدون تكرار نفس هذه الطلبات مرة بعد مرة؟ هل تزعجكم عدم قدرة أطفالكم على الانضباط والالتزام؟ هل توتركم الفوضي وانعدام الترتيب؟
أنا متأكدة أن أغلبكم سيجيب بنعم على هذه الأسئلة. فنحن جميعاً نواجه هذا التحدي بشكل أو بآخر في علاقتنا بأطفالنا، والذي يظهر في تشتت وتبعثر الأشياء والمهام بشكل مستمر في عالمهم، بدءاً من ترتيب ملابسهم وألعابهم وأدواتهم الخاصة إلى التزامهم بحل واجباتهم المدرسية أو إنهاء مهامهم بانتظام في أوقاتها المناسبة.
الحقيقة أن هذا الموضوع هو مثالٌ جيدٌ لكيف نقع كمربين في فخ التمسك بالظواهر والتفكير القصير المدى، الأمر الذي يرهقنا ويفقدنا أعصابنا لأنه ببساطة لا يفلح في إكساب أطفالنا أية مهارات أو بناء أية قيم ويجعلنا نستهلك طاقتنا في المكان الخاطئ تماماً، والتالي نعلق في دوامة الاحباط ولوم الذات والحيرة والتي تتحول بسهولةٍ لانفجارات غاضبة على أطفالنا “المهملين” و”غير المنظبطين” في تصورنا.
الحقيقة المفاجئة هي أنه من الطبيعي جداً أن ينسى الأطفال ويتهاونوا في ترتيب غرفهم، وألا يتمكنوا من الانضباط والالتزام في إداء وظائفهم وإنهاء مهامهم كل الوقت، ومن دون مساعدتنا! فكل هذه المهام مرتبطة بتطور المهارات الوظيفية الأمر الذي لا يحصل بين ليلة وضحاها، بل يحتاج لسنوات حتى تكتمل أجزاء الدماغ المسؤولة عن هذه الوظائف وبعد الكثير من التدريب والتذكير والمساعدة لبناء هذه القدرات.
دعوني أستعرض معكم 3 أفكار يساعدنا فهمها على التعامل مع هذا الموضوع بشكل أفضل وأكثر اتساقاً مع النمو النفسي والانفعالي والإدراكي لأطفالنا.
أولاً: بناء القيم والمهارات هي عملية بناء وتطور مستمر:
القدرة على التركيز لفترات ممتدة وتذكر التعليمات والسيطرة على الاندفاع من الوظائف التنفيذية، وهي وظائف غير متطورة بشكل كامل بعد لدى الأطفال، لذلك فإن قدرتهم على التنظيم والترتيب ليست في أفضل حالاتها.
نحن نعرف من علوم الدماغ بأن الوظائف التنفيذية تبدأ بالتطور في سن السابعة وتستمر في عملية بناء طوال سنوات الطفولة والمراهقة ولا تكتمل حتى منتصف العشرينات من العمر.
لذلك فإن دماغ طفلك البالغ من العمر 8 سنوات مثلا، لن يتمكن من تذكر أن عليه تعليق المنشفة بدل رميها على الأرض عندما يكون متحمساً بشدة للعودة لاكمال الكتاب المثير الذي كان يقرأة قبل الحمام. و مثله دماغ طفلتك البالغة من العمر 11 عاماً والذي لن يتذكر أن عليها ترتيب فراشها كل صباح مادامت متحمسة للإلتقاء بصديقاتها في المدرسة صباحاً.
هل يعني هذا أن نتوقف عن محاولة اكسابهم هذه المهارات بانتظار عمر العشرين؟ بالطبع لا!
ولكنه يعني أن نستوعب كمربين حقيقة أن وضع القواعد والأنظمة أمر وقدرتهم على التقيد والالتزام بها أمر آخر فالعمليةٌ رحلة غرس وبناء ستحتاج لمتابعة وتوجيه مستمرين، ومن المهم لنا أن نتحلى كآباء وأمهات بمقدارٍ أكبر من الصبر والحِلم في التعامل والاستجابة ونحن نقوم بغرس هذه القيم والنمذجة لها، وهو أهم ما يمكننا القيام به في هذه المرحلة.
من المهم أيضاً أن ندرك حقيقة أن تهاون أطفالنا في بعض الأيام بواجباتهم أو عدم القيام بما هو متوقع منهم على أكمل وجه أو بالشكل المطلوب، لا يعني أننا فشلنا كمربين في تنشئة أطفالٍ منضبطين وملتزمين سلوكياً ولا يعني كذلك أن أطفالنا فاشلون أو محدودون سلوكياً أو فكرياً، إنما يكمن الأمر في حقيقة كون الأطفال في هذه المرحلة العمرية يعيشون في مرحلة تدريبية وتطويرية أساساً لمهاراتهم وتكمن مهمتنا كمربين في توجيههم المستمر نحو السلوك الصحيح المطلوب دون كلل، وباستراتيجيات مختلفة ومتنوعة فهذا ما تتطلبه طبيعة المرحلة.
إن استيعاب هذه الفكرة سيخفّف كثيراً من الأعباء عنا كأولياء أمور، وستساعدنا على أبقاء سقف توقعاتنا في المستوى الواقعي والمتناسب مع نمو أطفالنا وقدرتهم على اظهار الانضباط في مراحل الطفولة. وسيجنبنا الكثير من الاحباط ومشاعر خيبة الأمل التي نمر بها عندما تكون توقعاتنا غير متسقة مع مراحل نمو أطفالنا وتطورهم.
ثانياً: اكتساب المهارات وبناء القيم هي عملية مركبة
يشرح دانيال سيغل في كتابه No-Drama Discipline (مترجم للعرببية تحت عنوان: تربية خالية من الدراما) كيف أن التجارب التي نخوضها هي ماتشكل أدمغتنا. ويستخدم تعبير “الخلايا العصبية التي تشتعل معًا ، تترابط معًا” بمعني أن التجارب ترتبط بالمشاعر التي نشعر بها ونحن نخوض هذه التجارب.
لنأخذ مثال شائع وهو ترتيب الغرفة مثلا، إذ كانت تجربتي كطفلة هي أن طلب ترتيب غرفتي يترافق دائما بلوم وتقريع وإهانات، فإن هذه التجربة سترتبط بعد تكرارات عديدة بمشاعر ثقيلة وسلبية تجاه نفسي وقدراتي، وهكذا سيخزنها دماغي وجهازي العصبي للأبد.
من المهم أن ندرك أن العاطفة هي المحرّك الأساسي لأغلب السلوكيات البشرية، وليس من المفاجئ أن نلاحظ أن أغلب الأمور التي نستصعبها كبالغين مرتبطةٌ بمشاعر صعبة وثقيلة منذ طفولتنا، على سبيل المثال الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات الأكل نجد لديهم علاقة معقدة وصعبة من الطعام، وكذلك بالنسبة للأشخاص الذين يستصعبون الترتيب والالتزام فذلك يعود لارتباط هذه التجربة بمشاعر سيئة لديهم.
صحيح أن ذلك يمكن تغييره لكنه سيتطلب قدراً من الوعي وأيضا مجهوداً كبيراً لخلق تجربة مغايرة مرتبطة بهذه المهمة.
وهكذا يمكننا أن نرى كيف أن محاولاتنا المستميتة لإكساب أطفالنا مهارات معينة يمكن أن تقودنا لطريق معاكس لما ننويه أصلا. يمكن بالطبع تغطية هذ المشاعر الصعبة وتجاوزها مؤقتا بأساليب العقاب والثواب التقليدية والتي تشكل في بعض الأحيان حوافز خارجية لأطفالنا، ولكن بمجرد غيابها فأن ما يحدث هو أن الشخص سيعود للنفور من هذا الموضوع، فهذه هي الاعدادت الأصلية التي بنيت عليها وارتبطت بها تجربته وبالتالي الطريقة التي يراها ويتعرف عليها دماغه وجهازه العصبي.
التركيز والمبالغة في التشديد على السلوكيات المنضبطة والملتزمة بشكل غير متفق مع نمو الأطفال وادراكهم ودون الأخذ بالاعتبار تطورهم المعرفي والادراكي، يمكن أن يقودنا إلى نتيجة معاكسة تماما. وستجعل أموراً مثل ترتيب الغرفة أو حل الواجبات الدراسية مرتبطة دائماً بمشاعر ثقيلة ومزعجة.
لذاً ينبغي علينا كمربين دوماً وضع أولوياتنا في التربية نصب أعيننا، فهل المطلوب منا حقاً أن نحصل على نتيجةٍ فورية الآن دون النظر للخسائر والتحسّب لها؟! أم أن المطلوب هو التأني وبُعد النظر وتهيئة أطفالنا تهيئةً جيدة للمستقبل؟
ثالثاً: المرونة عنصرٌ أساسي في عملية تعليم الالتزام للأطفال
هناك فكرة أخيرة أحب أن أشير لها هنا، وهي تصور واعتقاد معيق لنا كمربين من المهم لنا أن نتنبه لأثره في علاقتنا مع أبنائنا. وهي صفةٌ هامة جداً وتتعلق بحقيقتنا كبشر ومدى محدودية طاقتنا وقدرتنا على التعامل بنفس السوية على مدار الأيام، فلعلّكم كبالغين لاحظتم تفاوت قدرتكم وطاقتكم على العمل بين يومٍ وآخر، وهنا ينبغي ألا ننسى أن أطفالكم يمرّون بنفس الأمر، ولهذا يجب التعامل على نفس المبدأ معهم، فقد تكون هناك أيامٌ صعبة عليهم لا يرغبون فيها بتأدية الكثير من الواجبات والالتزام إلى جانب ما ذكرناه مسبقاً حول عدم جهوزيتهم للالتزام والانضباط في مرحلة الطفولة، فهنا يجب التعامل بمرونة ومنحهم فسحة لاستعادة طاقتهم وحماسهم، من دون أن نأخذ هذه الأوقات كمؤشر مبالغ به نحكم به على سلوكهم ومدى تطور قدراتهم.
وأخيراً، في كل مرة تشعرون بها بالإحباط لأن أطفالكم لم يتمكنوا بعد من مهارة أو قيمة معينة، تذكروا أن الطفولة ليست الوقت المناسب للحصاد، فأنتم مازلتم في فترة البناء والغرس وهي عملية لم ينتهي دوركم بها بعد، والرحلة مازالت في بدايتها. تذكروا أن نتائج عملكم وتنشئتكم لأبنائكم قد تبدأ بالظهور بعد سنوات طويلة من الآن، استمروا بالتذكير والتوجيه بحزم وحب وستفاجئكم النتائج .