ستة أفكار لترويض وحش الشاشات

مشاركة المقال:

بقلم: أنيسة الشريف
مؤسِّسة تنشئة
مدربة معتمدة في منهجية التنشئة عبر التواصل

الشاشات والأجهزة الإلكترونية تكاد تكون أكثر موضوع يشغل أي مربي هذه الأيام. مع تزايد الاحصائيات عن آثارها اللي لم تتكشف بشكل كامل بعد، وتوالي التحذيرات من الخبراء والمختصين يبدو وكأن كل أم وأب مضطرين للتعامل مع وحش غير قابل للترويض، يهدد سلام أبنائنا ويشعرنا جميعا بالذنب، فنحن شئنا أم أبينا، ومهما كنا مخلصين في جهودنا لتخفيض عدد الساعات التي يقضيها أبنائنا أمام الشاشات، فلن نتمكن من تحويله لصفر.
هذا الصيف كان عنوانه الاسترخاء من دون جداول مزدحمة أو مبالغة في الأنشطة، مما عنى الكثير من الوقت في المنزل. من الصعب علي الاعتراف بأن ابنتي قضت أمام الشاشات هذا الصيف عددا من الساعات أكثر بكثير مما يُنصح به، لكن هأنذا أفعل ذلك وعلى العلن، وذلك لأني قررت مواجهة هذا الوحش في محاولة لفهمه، وربما ترويض خدماته لصالحي. كيف؟ إليكم الخلاصة في ستة عناوين

أولا: التصالح مع مشاعر الذنب

من الطبيعي أن تترافق عملية التنشئة مع أحاسيس بالذنب، ولكل منا مثيراته الخاصة. والشاشات قد تكون من أحد مثيرات هذا الإحساس لدي. مثلها مثل أية مشاعر أخرى، فإن مشاعر الذنب هي بمثابة مؤشرات انذار في رؤوسنا، من المهم فهمها وتقييمها بشكل واقعي:
“هل  قضت فعلاً وقتا أطول مما ينبغي أمام الشاشات؟”…

“هل هناك أي شيء مقلق في المحتوى الذي تشاهده؟”

أو هل احساسي بالذنب هو نتيجة لمعلومات مغلوطة أو أفكار غير منتجة وغير واقعية أحملها عن نفسي أو عن ابنتي:

“لا يحق لي أن أحظي بوقتي الخاص كأم”..

“أنا أم فاشلة”..

“الشاشات لا تحمل أي قيمة إيجابية للأطفال في عمرها”.

التعامل مع الإحساس بالذنب من دون أحكام مسبقة، ومحاولة فهمة بموضوعية يساعدني في ترويضه لصالحي ولصالح تقوية علاقتي بابنتي وليس لاستنزاف طاقتي وتعزيز الأفكار السلبية لدي. وهو أهم مهارة نحتاج للتدرب عليها في مواجهة هكذا تحديات تربوية.

ثانيا: استخدام الشاشات كحليف وليس كبديل

من لديه طفل في السادسة، مفتون بالحياة يعرف تماماً صعوبة أن نكون حاضرين كل الوقت. وبالرغم من أني أحب واستمتع كثيرا برفقة ابنتي، فأنا احتاج للكثير من الوقت الخاص خلال اليوم لتجديد طاقتي. ومن الضروري أن نضع حاجتنا للوقت الخاص كأولوية.

المشكلة الأكبر هي عندما تتحول الأجهزة لبديل عنا، فنغرقهم بأحدث الأجهزة تعويضا عن شعورنا بالتقصير تجاههم. أو نسمح لهم بقضاء أوقات طويلة عليها لانعدام قدرتنا على التواصل معهم، مستسلمين للهدوء الزائف الذي تمنحنا إياه، فتكبر الازعاجات الصغيرة وتتحول لشروخ عميقة في علاقتنا وعوائق لذكائهم الطبيعي وفطنتهم.

يجب أن نتذكر دائما أن الكمال مقصد غير قابل للتحقق في العالم، وأننا لن نكون مثاليين مهما حاولنا، لكن ما يهم هو معرفة كيف ابني علاقة مع طفلتي، فإذا امتلكت المهارات وعملت جاهدة على التواصل وفهم الإنسان الذي أتولى تنشئته، يمكن حينها للشاشات أن تكون معينا لي في بعض الأيام التي افتقد بها لطاقة الحضور، أو أواجه فيها مصاعب للتواصل فاستخدامها كفترات من النقاهة التي لابد منها وليس بديلا عن علاقة إنسانية عميقة.

ثالثا: فهم عالم التكنولوجيا الحديثة والإعلام الرقمي

تكمن خطورة الشاشات وما يترافق معها من منصات ومحتوى رقمي، في حداثتها وسرعة تطورها بشكل يصعّب على الفرد العادي المواكبة. لكننا معنيون كمربين بأن نتحصل على القدر الأدنى من الثقافة الرقمية، لأنه واقع العالم الذي سيعيش به أبناؤنا. وما يشاهدونه عليها هو كالطعام الذي يغذي مخيلتهم ويشكل منظومة قيمهم. التحدي يكمن في أن المحتويات وإرشادات الاستعمال غير مباشرة ولا تأتي خلف العلبة كما هو الحال في المنتجات الغذائية. مما يوجب علينا أن نبذل جهدا في تحري مصادر معلوماتنا عن هذا العالم والمنظومة الاقتصادية التي هو جزء منها، ونفهم تأثيراته النفسية والعضوية.
لا أريد أن أصور هذا العالم كشر مطلق، فهناك العديد من الدراسات التي تتحدث عن إيجابياته، وكيف أن هناك جيلا جديدا أصبح يتمتع بمهارات ادراكية لم يكن يتمتع بها الجيل الذي يسبقه. لكن هناك أيضا الدراسات التي تشير لأضرار استخدامها المفرط أو تقديمها للأطفال أبكر مما ينبغي، أو بمحتوى غير ملائم. مهمتنا كمربين هي أن نضمن جهوزية أطفالنا للتعامل مع هذا العالم الجديد والمثير.
المؤسف أن المصادر الموثوقة باللغة العربية نادرة على أفضل تقدير، لكن هناك مصادر رائعة باللغة الإنجليزية.  شخصيا اعتمد على موقع كومونسينس ميديا لاختيار المضمون والمحتوى. وموقع اديوكيت امباور كيدز وهي مؤسسة غير ربحية هدفها تبسيط الثقافة الرقمية للمربين

رابعا: تحصين الصغار بالمعرفة والتفكير النقدي

أعتقد أن أهم قيمتين يجب أن أزرعهما في ابنتي لضمان جهوزيتها للعالم الرقمي هما: تقدير الخصوصية، والتفكير النقدي.

مهم جدا أن يفهم الصغار أن ما يتم مشاركته في العالم الرقمي يظل هناك إلى الأبد، وهذه المعلومة لن تكون ذات قيمة للطفل الذي يتربى من دون تقدير لخصوصياته. الطفل الذي لا يشعر بأن والديه يحترمان خصوصيته، سيكبر من دون أن يقدر أهميتها.
ابنتي في السادسة، لكننا بدأنا نتكلم عن الخصوصية منذ أن كانت في الثالثة، وقد كانت هي من نبهتني على تجاوزي!
مثل أي أم تدهشني كلماتها ونهفاتها الصغيرة، وأحيانا بحكم العادة والثقافة التي تربيت عليها، أشارك بعضا من حكاياتها وقصصها مع الأهل والأصدقاء، دون أن انتبه إلى أنى أتكلم عن شخص يجلس بجانبي ولديه مشاعره وأحاسيسه الخاصة. صارحتني ابنتي منذ فترة أنها تنزعج من ذلك وطلبت ألا أتحدث عنها أمام الاخرين، فأصبحت انتبه أكثر لاستئذانها عندما أريد أن أشارك قصة عنها. هذا الصيف أعلنت أنها أيضا لا تحب مشاركة صورها، ووعدتها أن استأذنها قبل أن أفعل ذلك، حتى عندما أريد مشاركة الصور مع والدها.
التفكير النقدي أيضا مهارة يتم غرسها وتنميتها منذ الصغر. وهي تبدأ بالفهم وليس بتنفيذ الأوامر. “لا تشاهد الكثير من التلفاز” ليس لأني آمرك بذلك، بل لأني أحبك والساعات الطويلة تأثر على خلايا دماغك فلا تنمو بالقدر الذي تنمو به عندما تقرأ كتابا، مثلا.
ابنتي تحب مشاهدة بعض القنوات على اليوتيوب، لذلك نحن نتحدث كثيرا عن الأسباب التي تدفع الأشخاص لإنشاء قنوات، ولماذا يروجون لألعاب معينة. هي تعرف أن الشركات تدفع لهم مقابل ذلك. نتكلم أيضا عن الشركات التجارية وكيف تصنع أشياء ليست بالضرورة مفيدة لنا، لأن هدفها كسب المال. طفل في السادسة يمكن أن يستوعب ذلك!
ويمكن أيضا أن يستوعب معلومات عن كيفية عمل الدماغ. كيف ينمو ومالذي يؤثر عليه، فيفهم أن مشاهد العنف تتسبب في تحفيز أجزاء معينة من دماغنا فتصبح قدرتنا على السيطرة على انفعالاتنا أصعب.
لم تشاهد ابنتي في اول سنة من عمرها أية شاشات لكن مع بداية السنة الثانية بدأت الساعات تطول وتطول والآن في السادسة من عمرها فهي مولعة بهذا العالم المثير للدهشة، أتأمل أن تساعدها أحاديثنا هذه وما غُرس فيها من قيم، على الإبحار في العالم الرقمي بثقة وسلام.

خامسا: استخدام الأجهزة كطاقة للاطلاع على عالم الصغار

تحب ابنتي لعبة الكترونية تتضمن العناية بأحصنة وتزيينها. هذه اللعبة تحديدا تجعلني في مواجهة كل ما يزعجني من قوالب تتعلق بالشكل والجمال واللون، خاصة القوالب التي تُرسِّخ لدى الفتيات صورة نمطية عما يجب أن تكون عليها أشكالهن، وتجذبهن لعوالم الأميرات. لكن هذا ما تحبه ابنتي، التي في الغالب لن تكون نسخة مني في تفضيلاتها وميولها. ولأني أهتم بالتعرف على تفكيرها ويهمني أن تشاركني في عالمها، فأنا أقبل دعوتها إلى عالمها الوردي المنمق والمبهرج، وأجلس بكل أدب واحترام لتشرح لي قواعد اللعبة، ومن دون توجيهات أو نصائح، فأتعلم منها كيف تزين الأحصنة الشقراء وتلبسهم كل ما يمكنها من الحلي والجواهر والتيجان المرصعة.
لكن ذلك لا يمنعني أبدا بأن أسجل في دفتر ملاحظاتي الذهنية ما ألمحه لديها لتفضيل البشرة البيضاء والعيون الزرق والشعر الأصفر، فأحرص في مناسبات عدة على قراءة قصص تعزز مفهوم الجمال الداخلي، وروعة التنوع والاختلاف.
أما عندما تدعوني مضيفتي إلى تزيين حصاني الخاص، فأنا أختار الحصان الأسود الجميل، وألبسه أبسط الثياب والزينة. وعندما تقول لي: “لم يعجبني حصانك كثيراً، لكني أحترم ذوقك” أعرف أني على الطريق الصحيح.
تساعدني هذه اللحظات على التقرب منها، وتمنحني فرصا ذهبية لأصحح وأعدل في منظومة القيم التي تكتسبها.

سادسا: التشارك في التجربة الرقمية

إحدى إشكاليات الشاشات هي أنها تقلل من التفاعل والتواصل الإنساني، فيغرق الطفل في عالم خاص وينقطع عن الواقع. للالتفاف على ذلك يمكننا تصميم وقت الشاشات، أو على الأقل جزء منه، ليكون مساحة مشتركة.
مثلما استمتع باستكشاف عالم ابنتي فهي أيضا، مثل بقية الأطفال، تحب أن تسمع عن طفولتي. لأن رحلة التنشئة هي رحلة لصناعة تاريخ مشترك فمن المهم لدي أن أحكي لأبنتي عن تاريخي، وهنا تأتي فائدة التكنولوجيا والانترنت، فأنا بضغطة زر أستطيع استعادة أغنية أو مسلسل كارتون أو مسرحية كنت أحبها وأنا صغيرة، نشاهدها معاً وأحكي لها عن طفولتي وما أحبه فيها.
وفي الأيام التي أحتاج أن أعمل، وترغب هي بمشاهدة أو لعب ما يمتعها، فأنا أحرص قدر المستطاع أن نكون في غرفة واحدة، قريبتان نتشارك في قبلة هنا أو ضمة هناك، فيما تتابع كل منا ما تفعله. وقد يحصل أحيانا أن تقطع مشاهدتها لتقول لي: “ماما، أنا أحبك”

كانت هذه تجربتي، في مواجهة تحدي أرهقتني مواجهته، وتعلمت منه وعنه الكثير. على أمل أن تكون في هذه الخواطر بعضا من فائدة لكم.

إقرأ المزيد

مقالاتنا الأخرى

التربية من عدسة التنظيم الانفعالي

نتلقى كمربين وباستمرار الكثير من النصائح الموجهة لتغيير سلوك أطفالنا. وحتى المحتوى الموجه للمربين اليوم يقع مجمله في نطاق المدارس السلوكية التي تنشغل بتقديم حلول